عمرو العماد يكتب: فنُّ المرافعة بين إحقاق الحق وفصيحِ القول
المرافعة ليست استعراضًا لغويًّا، ولا ميدانًا للتفاصُح الخطابي أو البراعة اللفظية، بل هي في جوهرها صراع شريف من أجل الحقيقة.
إنها ليست منبرًا خُطبويًا يُراد به التأثير العاطفي المجرد، بل محرابٌ للعدل، تتقاطر فيه كلمات المحامي كنبضٍ حيٍّ يدقّ على أبواب الضمير القضائي.
المرافعة إذن، فنٌّ عالٍ ولكن وسيلتُه الحقيقة، وغايته الحق، لا البلاغة في ذاتها.
فكما أنَّ السيف لا يُشهر إلا لإحقاقِ العدل، فإنَّ الكلمة لا تُرفع إلا لكشف الغطاء عن الحقيقة المتوارية بين سطور الأوراق، وغياهب الملفات، وضجيج الادعاءات.
لا يجوز أن تتفوق البلاغة على جوهر القضية، ولا أن يُضحَّى بالحق على مذبح الفصاحة، لأننا لسنا في خطبة جمعة تُساق فيها العبارات حماسًا، بل في ميدان عدالة تُرجَّح فيه الحقائق بالميزان الدقيق.
أيها المحامي، أنت فارس عدالة لا شاعر قصيدة، ومحامٍ عن الحق لا مغنٍ في ساحة البيان.
البلاغةُ مطلوبة، لا لنيل الإعجاب، بل لتجميل الحقيقة، وتيسير ولوجها إلى عقل القاضي، وقلبه.
إنها كالثوب الجميل يُلبس الحقيقة لا ليخفيها، بل ليُظهرها في أبهى صورها.
⸻
بين يدي المرافعة: مراحل التحضير وسبيل النجاح
المرافعة الناجحة لا تولد من ارتجال، ولا تنبع من ثرثرة على منصة القضاء، وإنما تُبنى كما تُبنى القضايا الكبرى، بالحُجّة والتمحيص، والتخطيط الدقيق.
1. التحضير العلمي والقانوني:
ابدأ من صميم النصوص القانونية والسابقة القضائية، وانزل بسيفك على المواد ذات الصلة، ووازنها بالوقائع، وانسج بينها خيطًا منطقيًا يصل القاضي بجوهر المسألة.
2. دراسة الملف كأنك تقرأ حياة:
اقرأ الأوراق لا ككلمات، بل كنبضات قضية حيّة، في كل ورقة شهادة، وفي كل توقيع نَفَس، وفي كل سطر حقيقة أو تضليل. لا تترك ثغرة دون فحص، ولا ادعاء دون فهْم.
3. بناء المرافعة:
اجعلها كالقصيدة المحكمة أو كالمرافعة النبوية:
• مقدمة تشدّ الانتباه
• عرضٌ واضح للوقائع والقانون
• تحليلٌ منطقي يمزج الحجة بالعاطفة
• وخاتمة تترك القاضي في حالة اقتناع لا رجعة فيها
4. السيطرة على القاعة:
ليس المقصود استعراض الشخصية أو رفع الصوت، بل حسن التوقيت، وسيطرة العبارات، وانتقاء الألفاظ، والنطق بثقة، حتى تشعر المنصة أنك تتحدث من موقع الثقة لا من منبر الدفاع.
5. التوازن بين البلاغة والبيان:
كل عبارة تقولها يجب أن تخدم الهدف: نُصرة الحق.
لا تُطِل لتمل القاضي، ولا تُوجز فتُبهِم عليه.
اجعل من كل جملة مفتاحًا للحقيقة، ومن كل كلمة سلاحًا في معركة العدل.
⸻
ختامًا:
المرافعة يا زميلي المحامي، ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لنُصرة الحق.
ولا يجوز أن تُستَبدل الحقيقة بالبلاغة، أو تُستغنى عن الحق بإعجاب القاعة بفصاحتك.
نحن لا نُرافع من أجل التصفيق، بل من أجل الإنصاف.
فليكن سلاحك في منصة العدالة، الحقيقة أولًا، والبلاغة تابعة لا متقدمة،
ولتتذكر دائمًا:
أنك محامٍ، لا خطيب جمعة… وأن العدالة لا تُنال بفصاحة اللسان وحدها، بل بصدق الحُجّة وقوة البرهان.
كتب / عمرو العماد